الثلاثاء، 19 فبراير 2013




في منزل عائلة الشهيد شكري بلعيد
ابشروا .. شكري مَامَاتش ..

ارملته بسمة :الثوّار لا يموتون ايّها الجبناء

جبل الجلود/تونس

تنظر امامك فتطالعك وجوه حزينة تعلو محيّاها كئابة تختزن هول الفاجعة .. تُجيل ناظريك حواليك فيرتدّ لك البصر منكسرا مشحونا بصور ستظلّ محفورة في الذاكرة الى اجل غير مسمّى ..تقترب من الحاضرين فينتابك شعور غريب وغير معهود .. كلّ شيء هنا يبوح بقصص وحكايات عن ثورة تتأرجح بين كفّتي النّصر والغدر .. كلّ شيء يشي بغد غير واضح المعالم .. كلّ شيء يؤشّر لواقع جديد ستكون فيه كلمة الفصل لارادة تلك الجموع التيّ تبنّت خيار الثورة وقالتها صراحة :
"يا شكري يا شهيد على دربك لن نحيد" ..

 نعم انت هنا في حضرة عائلة شهيد "الارض و الحرية والكرامة الوطنية" شكري بلعيد الذّي امتدّت له اياد الغدر الاثمة ذات صباح فغيّبت جسده المنهك بالنضال ولكنّها لم تدر بانّها وحّدت الملايين من التونسيين على اختلاف توجّهاتهم الفكرية والسياسية خلف وصيّة الشهيد.

تحذيرات دون جدوى

بكلمات ملؤها الاسى استقبَلَنا عبد المجيد بلعيد الشقيق الاكبر للشهيد في مدخل منزل العائلة الكائن بضاحية جبل الجلود على بعد بضع كيلومترات من العاصمة. لم يكن يرغب في الكلام بقدر ما كان صمته يُغني عن ايّ كلام. سكت عبد المجيد لبرهة من الزمن ، اطلق تنهيدة مشفوعة برعشة هزّت جسده ثمّ انطلق لسانه :" لقد كان يعلم انّ يد الغدر ستغتاله ، قالها بصريح العبارة داخل العائلة في اكثر من مناسبة ، وقد حذّره والدي خلال الاسبوع المنقضي وطلب منه ان يخفّف قليلا من تحرّكاته مذكّرا ايّاه بانّ لديه بنتين صغيرتين .. فهل تعلم ماذا كانت اجابته .. لقد اجاب بكلّ ثقة في النفس : ابنتيّ لهما الله وانا ملك للوطن ولن يثنيني شيء عن النضال من اجل شعبنا الكادح .. فالربّ واحد والعمر واحد".
 عبد المجيد تحدّث عن الخطوات التي ستتّبعها العائلة لكشف ملابسات حادثة الاغتيال مؤكّدا بانّه وبقيّة عائلة بلعيد لا يثقون مطلقا في قضاء "تتحكّم في النهضة" وفي امن "يصمت على المجرمين" وفي حكومة "خانت دماء الشهداء" و"تستّرت على المجرمين والارهابيين" ، مضيفا في هذا الصدد بانّ امر تتبّع الجناة موكول لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد الذي يعتزم التوجّه محكمة الجنايات الدولية.
 محدّثنا بدا مصرّا على رحيل الحكومة ومن ورائها حركة النهضة عن الحكم كحدّ ادنى لعزاء الشهيد قائلا لكلّ التونسيين ان "ابشروا .. ابشروا شكري مَماتش .. شكري حيّ في قلوب الملايين من التونسيين..ابشروا ولا تتراجعوا فتونس ولاّدة ومثلما انجبت شكري ستنجب الالاف بل الملايين من شكري لمحاربة هؤلاء الظلاميين اعداء الحرية".

سيكون اطول عمرا من قاتليه

على مقربة من عبد المجيد كان يجلس الشّيخ صالح والد الشهيد ، متأزّما مكتئبا وحزينا .. لم نشأ ازعاجه بكمّ كثير من الاسئلة فاختزلنا كلّ الافكار في سؤال واحد : غدا (اي الجمعة) جنازة الشهيد ايّ رسالة توجّهها للتونسيين ؟
صالح بلعيد والد الشهيد
 نظر الينا نظرة مشحونة بالالم ثمّ اشاح بوجهه عنّا متامّلا صورة الفقيد توشّح احد الجدران وقال :"ادعو كل التونسيين لحضور الجنازة والقاء تحيّة اخيرة على جثمان الشهيد .. الاّ النهضة فانّي احذّرها من مغبّة الاقتراب من الجنازة".
 انتهى كلام العمّ صالح ولكنّ الكلام عن الشهيد لم ينته حيث واصل لطفي (شقيق الشهيد) من حيث انتهى والده محذّرا فريق الحكم من حضور الجنازة ، قائلا في السياق ذاته بانّ العائلة ترفض قبول العزاء ممّن وصفهم ب"المحرّضين" و"المتستّرين" .

لطفي بلعيد شقيق الشهيد
 لطفي حدّثنا عن اخر لقاء عائلي جمعه بالمرحوم مشيرا الى انّ هذا الاخير كان قد اتّصل بالعائلة منذ ايام طالبا تحضير وجبة تتمثّل في كسكروت ملاوي فكن له ما اراد . وبعد الانتهاء من الاكل – يقول لطفي – تجاذب اطراف الحديث مع العائلة مخبرا ايّاهم بانّه اصبح يتلقّى بشكل متواتر مكالمات ورسائل تهديد على هاتفه الجوّال. ولمّا جدّدت له العائلة طلبها الالتزام بالحذر اجاب بكبريائه المعتاد " احلم ان اموت وسط الشعب ..فداء لهؤلاء الكادحين والفقراء والمهمّشين والمعطّلين .. فداء للمراة الثائرة".
 لم يستطع لطفي اكمال ما تبقّى من حديثه فقد استبدّت بصوته حشرجة . التقط انفاسه وجمع جرعة صبر وواصل ساردا وعلى شفتيه ابتسامة افتخار واعتزاز :"في تلك الغرفة المقابلة ، يوم اعدام الشهيد صدّام حسين سألت شقيقي شكري عمّا ستؤول اليه الاوضاع في العراق ، فردّ في نبرة لا تخلو من تحدّ: اغبياء ، هل يظنّون انّهم قتلوا صدّام ..لقد صنعوا عشرات الملايين من صدّام حسين .. اغتالوه في جبن فدخل قلوب خصومه قبل حلفائه واضحى عنوانا للمقاومة.".

موعد الفرج اقترب ...

لم يكن من الممكن زيارة عائلة الشهيد وغادرة المنزل دون القاء نظرة على جثمان الشهيد المسجّى في غرفة تعجّ بالزوّار من داخل تونس وخارجها.

ارملته بسمة الخلفاوي رفقة ابنته نيروز


وَلَجنا الى داخل الغرفة بعد جهد جهيد فألفينا جثمان الشهيد مغطّى بالعلم المفدّى ، وعلى مقربة منه كانت تجلس ارملته بسمة الخلفاوي وبنتيه الصغيرتين وعدد من اصدقاء العائلة ولفيف من الاعلاميين :"ظنّوا بانّهم بجريمتهم تلك سيتمكّنون من اسكات كلّ صوت تقدّمي يدافع على الشّعب ولا يهادن جلاّديه – تقول بسمة - لقد اخطؤوا العنوان فالثوّار لا يموتون .. الثوّار لا يموتون ايّها الجبناء لانّ دماءهم الزكيّة لا تذهب هباء ولا تضيع مهما طال الزمن.. انّنا جميعا شكري بلعيد تنصّتوا على هواتفنا جميعا اذن وكرّروا نفس السيناريو معنا ان اردتم .. حتّى وان قتلتمونا جميعا فارادتنا لا تلين ولن تلين ابدا".
 لم تكن تتحدّث كأرملة منزلُها مفتوح للتعازي .. بسمة الخلفاوي كانت تتجلّى كعروس .. كانت تمزج الدموع بالاعتزاز والفخر .. كانت تبشّر التونسيين بقرب موعد الفرج وبزوال الغمامة قريبا .. فريبا جدّا مثلما تقول .
 غادرنا المنزل وعلى شفاهنا يرتسم سؤال وجوديّ : "هل مات شكري فعلا .." .
لم ننتظر طويلا لتأتينا الاجابة في مدخل الباب الرئيسي على لسان عدد من الشباب بصوت واحد هزّ الحيّ بأكمله :" يا شكري يا شهيد على دربك لن نحيد".

روبورتاج : وليد الماجري


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق