الأحد، 6 أكتوبر 2013


Society  › 

debozville
تونس/ نواة / انجاز وليد الماجري
لم يكن مقتل محافظ الشرطة محمد السبوعي على أيدي متشدّدين في منطقة ديبوزفيل الواقعة على مشارف العاصمة مجرّد جريمة عابرة ينتهي الحديث عنها بمجرّد انتهاء مفعول الصّدمة، فقد سقط القناع عن خلفيّات الجريمة وتبيّن بأنّها لم تكن حادثة معزولة أو جريمة حقّ عام بقدر ما كانت “عملٌا إرهابيّا” منظّما يندرج في سياق النّشاط الإعتيادي لأحدى الخلايا المتشدّدة التّي نجحت في بسط سيطرتها على منطقة ديبوزفيل سعيا منها إلى تطبيق الشريعة على المتساكنين في غياب تامّ لمفهوم الدّولة مستعينة في ذلك بتنظيم هرمي سنقوم بمحاولة تعريته في هذا المقال.
من خلال العمل الإستقصائي التالي سنحاول كذلك رفع الستار عن ملابسات مقتل محافظ الشرطة محمد السبوعي وما حفّ بالجريمة من وقائع تتعلّق ب”الإحتطاب” و إقامة الحدّ على “الطّاغوت”، ونكشف خفايا تنظيم ديبوزفيل الذّي يعتبر أحد المحاور المهمّة بالنسبة إلى تيّار السلفية الجهادية في تونس على اعتبار انّه مثّل على مدى الأشهر المنقضية مركز تعبئة و تجنيد لعشرات الجهاديين الذّين تمّ إرسالهم في المقام الاوّل الى سوريا وفي مقام ثاني الى شمال مالي، فضلا عن تسليط الضّوء على كواليس التنظيمات الجهادية في تونس انطلاقا من نموذج ديبوزفيل.
ومن الضروريّ بمكان التأكيد، قبل الغوص في ثنايا التحقيق، على أنّنا ربطنا الصّلة بأكثر من قيادي من تنظيم “أنصار الشريعة” وعبّرنا عن استعدادنا التام لوضع كلّ المعطيات و الوثائق و التسجيلات التي تحصّلنا عليها على ذمّتهم لكي يتفاعلوا معها ويبلوروا موقفا واضحا تجاهها قصد تحصين تحقيقنا من أيّ تجنّ على التنظيم أو نشر غير مقصود لمعلومة غير ثابتة، الاّ أنّ قيادة التنظيم قرّرت بعد التشاور في ما بينها عدم التفاعل مع المعطيات والنأي بنفسها عن ابداء رأي فيها.
ونظرا لاعتمادنا في جزء من تحقيقنا على اعترافات بعض الموقوفين في قضيّة السبوعي وعدد من الشهود الذين شملهم البحث فقد استرشدنا لدى مصدر من هيئة الدفاع عمّا إذا كان هنالك أيّ احتراز صلب الهيئة حول عملية الإستنطاق للموقوفين وعمّا إذا تمّ تسجيل عمليّات تعذيب ضدهم فكانت الإجابة بالنفي إلى أن يَجدَّ عكس ذلك.

تنظيم جهادي بين ثكنتَين

تقع منطقة ديبوزفيل على بعد نحو ثلاث كيلومترات عن مركز العاصمة. وتتوسّط ثكنتين عسكريّتين احداهما في جبل سيدي علي الرّايس والثانية في جبل أمّ ختار فضلا عن انفتاحها على عدد من الأنفاق والمغاور القديمة والكهوف غير المكشوفة المترامية في جبل سيدي الرايس ومقبرة الجلاّز ما يجعلها تحظى بموقع استراتيجي يتيح للمجموعات المتشدّدة و غيرها الإقتراب من المناطق الحيوية و التحصّن من كلّ خطر داهم في الآن ذاته.
في سنة 2006 ظهرت أولى لبنات خلية ديبوزفيل من خلال النشاط الدّعوي العلني الذّي كان يقوم به أحد الشبّان، و الذي يُدعى عبد الله بوخريص و المعروف بكُنية الهفكي، حيث انقطع عن حياة الإجرام (انظر السيرة الذاتية أدناه) واعتنق الفكر الجهادي وراح يتجوّل في الحيّ بآلة تسجيل محرّضا الناس على الإستماع إلى خطب اسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة آنذاك. وتفيد مصادرنا المتطابقة بأنّ الهفكي نجح في استدراج عدد من شباب الحيّ (خالد، حمزة، زياد، لطفي- أنظر أسفل) ليعتنقوا الفكر ذاته.
وقد توسّعت المجموعة شيئا فشيئا لتتحوّل الى خليّة جاهزة للهيكلة، عندها تحصّن أفرادها بجبل سيدي بلحسن (قرب مقام الوليّ) وبايعوا عبد الله أميرا لهم وشرعوا في العمل السرّي إلى حين إيقافهم من قبل إحدى الفرق الأمنية الخاصّة قبل اندلاع انتفاضة سيدي بوزيد بنحو ثلاثة أشهر. و تمّ على إثر ذلك تفكيك الخليّة و ايداع المنتمين إليها السجنَ ليتمّ اطلاق سراحهم على خلفيّة سقوط نظام بن علي بعد أن شملهم العفو التشريعي العام.
بعد 14 جانفي، أصبح عبد الله الهفكي يتحرّك بحريّة مطلقة مما أتاح له ربط الصّلة ببعض القيادات السلفية على غرار سيف الله بن حسين المُكنّى بأبي عياض وفق ما تؤكّده الصّور و مقاطع الفيديو، ليسفر ذلك عن اتّخاذ قرار بإعادة إحياء الخليّة و توسيع نطاق عملها تحت إشراف مباشر و مباركة من قيادة أنصار الشريعة.
و نجح الهفكي في غضون أشهر قليلة من استقطاب عدد من شباب ديبوزفيل من ذوي السوابق العدلية في جرائم الحقّ العام (عنف، سرقة، سلب مسلّح، هجرة سرّية الخ…) ليكونوا النّواة الصّلبة للخليّة على اعتبار النفوذ الذي يحظون به في المنطقة وفق شهادات متطابقة للمتساكنين.
و تضاعف حجم الخلية مرّات و مرّات ليصل عدد أعضائها و المنتسبين اليها و الحاملين لأفكارها نحو 200 عنص، ما أتاح لها بسط سيطرتها بالكامل على منطقة ديبوزفيل التي لا يتجاوز العدد الجملي لسكّانها من 5 الى 6 آلاف ساكن بحسب الأرقام الرسمية، لتنطلق بعد ذلك معاناة الأهالي الذّين باتوا يعيشون على وقع الإرهاب النفسي و المادّي بشكل يوميّ دون أن يقدروا على تحريك ساكن جرّاء الغياب الكلّي للأمن الذّي حلّت محلّه “الشرطة السلفية” أحد الأذرع التنفيذية لتنظيم ديبوزفيل.

النموذج الهيكلي لتنظيم ديبوزفيل

قبل الغوص في الممارسات الميدانية – بعضها يرقى الى مستوى الإجرام المنظّم– التي يقوم بها تنظيم ديبوزفيل من الضروري تسليط الأضواء على التركيبة الهرمية للتنظيم الذي يتقارب هيكليّا مع الخلايا “الجهاديّة” المنتشرة في الشرق الجزائري و الخاضعة تنظيميا لما يُسمّى بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، علما أنّ تنظيم ديبوزفيل يخضع هيكليا الى ما يُسمّى ب”أنصار الشّريعة في تونس” الذّي يتبنّى، بشكل ضمنيّ، أجندا تنظيم القاعدة و يتلقّى دعما معنويا منها على شاكلة توجيهات وبيانات مساندة.
لمحة عن التركيبة الهرمّية للتنظيم :
- عبدالله الهفكي / مؤسس الخلية
حوالي 35 سنة، من عائلة ميسورة، مؤسّس الخليّة. هاجر بطريقة سرّية الى ايطاليا سنة 2004 وتمّ ترحيله بعد سنتين الى تونس. صاحب سوابق عدلية في قضايا حقّ عام. اعتنق الفكر الجهادي منذ سنة 2006 واصبح يدين بالولاء لتنظيم القاعدة.في فيفري المنقضي تمّت مبايعة وجيه الزّيدي في جامع ديبوزفيل اميرا للخلية تحت اشراف عبد الله الهفكي ليتفرّغ هذا الاخير لادارة شبكة التعبئة للجهاد في سوريا التي أسّسها بدعم من بعض القيادات السلفية. التحق بسوريا في فيفري المنقضي ويشرف حاليا على المجموعات الشبابية التونسية المنضوية تحت لواء جبهة النّصرة.
- وجيه الزّيدي / الأمير
33 سنة، أعزب، عاطل عن العمل، انقطع عن العمل كسائق لدى دار البيجو منذ أشهر، كان مهووسا بالهجرة الى اوروبا. لعب في صفوف النادي الإفريقي رفقة شقيقه الذّي يقبع الآن في أحد السجون الإيطالية بعد إدانته من قبل القضاء الإيطالي في جريمة قتل.وجيه الزيدي (أمير التنظيم) كان قبل الثورة يعيش حياة طبيعية و يشرب الخمر غير أنّه اعتنق الفكر الجهادي بعد الثورة وتمّت مبايعته أميرا للجماعة في جامع ديبوزفيل.وجيه موقوف الآن على ذمّة قضيّة مقتل محافظ الشرطة محمد السبوعي بصفته متّهما مع العلم أنّ لديه قرابة دمويّة باطار أمنيّ سامي في وزارة الداخلية.
extrait2
- حمزة بن عثمان / القاضي
حوالي 30 سنة، كان يشتغل في التجارة (صاحب محلّ تجاري للبيع بالتفصيل)، تزوّج خلال صائفة 2012، يشغل خطّة إمام جامع ديبوزفيل، تربطه علاقة وطيدة بأبي عياض، تمّ ايقافه سنة 2010 على الحدود التونسية الجزائرية في طريقه الى الجزائر من قبل الأمن الجزائري و تمّ تسليمه الى الجانب التونسي، غادر السجن بعد الثورة على اثر تمتّعه بالعفو التشريعي العام.
عُرف على مدى الأشهر المنقضية بخُطبه التحريضية التي تدعو صراحة الى الجهاد ضدّ “الكفّار” و”الطاغوت” فضلا عن اضطلاعه بمهمّة قاضي التنظيم حيث دأب على إصدار الفتاوى و الفصل في المسائل العالقة. تشير بعض الشهادات المتطابقة الى انّه أصدر فتوى لإقامة الحدّ على محافظ الشرطة بصفته أحد “جند الطّاغوت” في حين لا يوجد في ملفّ التحقيقات الأمنية المتعلّقة بالقضيّة ما يدينه بشكل مباشر.
- مروان / مكلّف بالاستقطاب والتأطير
حوالي 35 سنة، كان يشتغل نادلا في مقهى تابع لأحد المركبات التجارية بالعاصمة ثمّ انقطع عن العمل لأسباب دينية. تمّ إيقافه قبل الثورة بتهمة الإنتماء لتيار ديني متشدّد و تمّ إطلاق سراحه لاحقا. اصطفاه أمير التنظيم (وجيه) خليفة له و تمّ تكليفه بمهمّة استقطاب الشباب والمراهقين وتأطيرهم.
وتؤكّد شهادات متطابقة لمصادر من ديبوزفيل بأنّ جهاز الإستعلامات التابع لوزارة الداخلية كان قد تمكّن من اختراق إحدى اللقاءات السرية في الجامع و تسجيل “درس” أمّنهُ أحد قادة الخليّة تمّ خلاله اطلاع شباب الخلية على كيفية قتل “الطاغوت” مستعينا في ذلك بجهاز “ريترو بروجكتور” وصور توضيحية للعملية.
- رياض / مكلّف بالاتّصال
حوالي 32 سنة، مختصّ في الإعلامية. عضو مهمّ و فاعل في التنظيم. مشرف على صفحات الفايسبوك التكفيريةالناطقة باسم ديبوزفيل و التابعة له. بحالة احتجاب عن الأنظار منذ اعتقال بقية العناصر المتورّطة في قضية السبوعي علما أنّ اسمه لم يرد في ملفّ القضيّة.
- صابر / قائد المجموعة الامنية
حوالي 28 سنة، لاعب سابق في المنتخب الوطني لكرة السلّة. مكلّف بالإشراف على “المجموعة الأمنية” التابعة للتنظيم و المتكوّنة من عدد من الشبّان العنيفين. وتعتبر هذه المجموعة الأمنية النّواة الصّلبة للتنظيم. و تتفرّع عنها ثلاثة فرق:
- فريق الاحتطاب : يخرج بعد صلاة العشاء على متن سيارة مكتراة أو على متن درّاجات ناريّة لإجراء عمليات سلب مسلّح (سيوف، سكاكين، غاز مشلّ للحركة، صواعق كهربائية…) في جبل الجلود و الوردية و الكبارية و بعض المناطق المحاذية. و يتمّ تمكين الأمير من خُمُس الغنيمة (تُسمّى عمليّة تخميس) و اقتسام البقية في ما بينهم. و توجّه نسبة من الغنيمة الى صندوق مخصّص لتمويل سفر الجهاديين الى سوريا. بعض عناصر هذا الفريق على علاقة مباشرة بجريمة قتل محافظ الشرطة محمد السبوعي و الإستيلاء على مبلغ مالي كان بحوزته وحرق سيّارته.
- فريق الإستخبارات : يتكوّن هذا الفريق من مجموعة مراهقين يقودهم شابّ يُطلقون عليه كُنية “صبّوطة” .ويقوم المنتسبون الى الفريق بجمع المعلومات من المقاهي و الفضاءات التجارية و الحمّام و غيرها من الفضاءات العمومية الأخرى حول سلوك متساكني منطقة ديبوزفيل (شرب الخمر، التفوّه بالكلام البذيء، سبّ الجلالة، عدم أداء الصلاة، التحادث مع غرباء الخ..) فضلا عن مراقبة أعوان الأمن (جند الطاغوت) والتأكّد من هويّات المتساكنين أو الغرباء الذين يجالسونهم أو يتحادثون معهم.
- فريق حفظ النظام : يتكوّن هذا الفريق من عدد من منتسبي التنظيم، أغلبهم عادة من أصحاب البنية القوّية و التدريب الجيّد على العنف. يُطلق عليه في صفوف الأهالي اسم “الشرطة السلفية” . قامت هذه المجموعة بتعنيف عدد كبير من متساكني منطقة ديبوزفيل وفق ما تؤكّده المحاضر الأمنية التي بحوزتنا نُسَخ منها بالإضافة الى الإعتداء على عدد من أعوان الأمن من بينهم صابر البجاوي و آخرين على خلفية آدائهم لعملهم في بعض المناطق المحاذية.
وللإشارة يقوم عدد من أبناء التيار من مختلف الفرق السابق ذكرها في عديد المناسبات بحملات نظافة تطوّعية في منطقة ديبوزفيل ومنطقة الوردية المحاذية له فضلا عن تنظيم حملات مساعدة لبعض العائلات المعوزة يتمّ خلالها تقديم قفّة لكلّ عائلة تحتوي على كميّة من الموادّ الغذائية واللحوم والخضار. وقد سعت الخلية (ومن ورائها التنظيم) الى تنظيم قوافب طبيّة مجانية لمساعدة المرضى المحتاجين غير أنّ وزارة الداخلية حالت دون حصول ذلك في أكثر من مناسبة وفق ما تؤكّده شهادات متطابقة.
debos0
زياد رجيبي و محمد العانزي قُتِلا في معارك حلب بسورية
كتيبة المجاهدين في سوريا :
بالتوازي مع المجموعة الأمنية التي تمثّل النّواة الصلبة يحتوي تنظيم ديبوزفيل على نواة أخرى لا تقلّ أهمّية عن سابقتها تتمثّل في “كتيبة المجاهدين” التي خاض عناصرُها تجارُبَ قتالية في عدد من الدول قبل الثورة (العراق، افغانستان، الجزائر الخ) وبعدها (ليبيا، سوريا، مالي). وتحظى هذه “الكتيبة” بتدريب جيّد على فنون القتال والرماية وتفكيك الأسلحة وصنع المتفجرّات. و تضمّ ما لا يقلّ عن تسعة عناصر من أبناء ديبوزفيل بالإضافة الى عشرات الشبّان الآخرين من شتّى مناطق البلاد.وفي ما يلي القائمة الإسمية المصغّرة ل”مجاهدي ديبوزفيل” الذين التحق ثمانية عناصر منهم بالجهاد في سوريا تحت لواء جبهة النّصرة في حين التحق تاسع بجبهة القتال في شمال مالي.
-عبد اللّه بوخريص، معروف بكُنية “الهفكي”، الرّجل المؤسّس للتنظيم الجهادي في ديبوزفيل. المشرف الرئيسي و المباشر على “كتيبة الجهاديين”. التحق بسوريا بعد تجنيد عدد غير محدّد من الشباب الجهادي سواء من ديبوزفيل أو من شتّى المناطق الاخرى للبلاد.
- زياد الرّجيبي (الإسم الحركي أبو الوليد التونسي)، 35 سنة، قُتل مؤخّرا في سوريا. تمّ التأكّد من وفاته رسميا بعد تلقّي العائلة لمقطع فيديو يوثّق الوفاة.
-وائل الرّجيبي، الأخ الأصغر لزياد، التحق بجبهة الجهاد في مالي وانقطعت أخباره منذ ذلك الحين.
- محمّد العانزي (الإسم الحركي أبو يعقوب)، حوالي 32 سنة، قُتل في سوريا مطلع ماي الجاري. تمّ تأكيد الوفاة بمقطع فيديو.
- مهدي الطالبي، حوالي 28 سنة، بصدد القتال في سوريا تحت لواء جبهة النصرة.
- خالد شمّاخ، تمّ طرده من التنظيم بعد تورّطه في قضيّة أخلاقية. وتؤكّد شهادات متطابقة انّ بعض عناصر التنظيم قاموا بتأديبه في وسط ديبوزفيل و حاولوا إقامة الحدّ عليه عبر ذبحه على مرأى من الناس، و لمّا تدخّل بعض المتساكنين لإنقاذه تمّ الإكتفاء بحلق لحيته و طعنه في فخذه و أسفل ظهره. بعد تلقّي العلاج فرّ خالد الى ليبيا ومنها الى سوريا حيث التحق بجبهة الجهاد.
- حامد البجاوي، حوالي 28 سنة، قاتل في ليبيا طيلة عام ثمّ التحق بالجهاد في سوريا موفّى العام المنقضي. هاجر قبل الثورة بشكل غير قانوني إلى إيطاليا ليتمّ طرده بعد الثورة الى تونس حيث تبنّى الفكر الجهادي والتحق بليبيا ليستقرّ به المطاف في سوريا.
- صابر الدلّالي، حوالي 25 سنة، متواجد حاليا في سوريا. نشر صورا له على شبكة الفايسبوك وهو يحمل أسلحة (رشّاش ومسدّسين وجهاز اتّصال لا سلكي).
- عماد السّعيدي، حوالي 35 سنة، تزوّج خلال الصائفة المنقضية وزوجته حاليا حامل. سائق سيارة أجرة ، إلتحق بجبهة الجهاد في سوريا.
وتؤكّد مصادرنا المطّلعة انّ أغلب عمليّات التجنيد الى سوريا مرورا بليبيا مرّت عبر تنظيم ديبوزفيل حيث كان عبد الله الهفكي نقطة الترابط بين مختلف شبكات التجنيد على اعتبار العلاقة الوطيدة التي تجمعه بقيادة ما يسمّى ب”انصار الشريعة” من جهة وبعض الجمعيات والمنظمات ذات الخلفية الإسلامية التي تتكفّل بتمويل عمليات السفر الى سوريا من جهة أخرى. و تفيد مصادر متطابقة بأنّ ناشطا سوريا يُدعى عبد العزيز النّجيب كان قد قدم الى تونس عند اندلاع الإرهاصات الأولى للثورة السورية و أشرف بنفسه على تركيز شبكة الهفكي و ربط الصّلة بينها وبين عدد آخر من الجهات الضّالعة في عمليات التعبئة و التجنيد و التمويل و التسفير الى سوريا.
debos1
الصورة على اليمين: عبد الله الهفكي المكنى بابي جهاد (شمالا) — الصورة على اليسار: صابر دلالي (يقاتل حاليا في سوريا)

من تطبيق الشريعة الى الارهاب

و إذا كان “الجهاد” و تطبيق الشريعة هما الهدفان المعلنان لتنظيم ديبوزفيل فإنّ الإحتطاب (مصطلح ديني مُرادف للسّلب “الحلال” من أجل تمويل الأنشطة المتعلّقة بالجهاد و نشر الدعوة و فرض الشريعة ) يَلُوحُ نشاطا لا غنى عنه لتمويل بقيّة أنشطة التنظيم. و تشير محاضر التحقيق – لدينا نُسَخ منها – المتعلّقة بقضيّة مقتل السّبوعي إلى أنّ عددا من أبناء التنظيم دأبوا على تسوّغ سيّارة “لوكاسيون” واستعمال درّاجات ناريّة قصد الإستعانة بها ليلا للقيام بعمليّات سلب في المناطق المجاورة لديبوزفيل مستعينين في ذلك بسيوف و سكاكين و سواطير و صواعق كهربائية و قوارير غاز مشلّ للحركة بالإضافة الى بعض المسدّسات التي لا يتمّ استعمالها الاّ نادرا.
وتؤكّد مصادرنا المطّلعة انّ “الشرطة السلفيّة” التابعة للتنظيم عمدت في مناسبات عديدة إلى الإعتداء على ما لا يقلّ عن 15 عون أمن، و لم يتمّ اطلاق سراحهم والعفو عنهم إلاّ بعد استتابتهم وإعلان الأعوان “توبتهم”.
ويشير عدنان السبوعي، شقيق محمد السبوعي، في هذا السياق الى انّ ما وصفه بالتنظيم الإرهابي في ديبوزفيل “بات يعوّض الدولة في منطقة ديبوزفيل و يحلّ محلّها في تسيير الشّأن العام من خلال فرض نظام حكمه بالقوّة على الناس و تأديب كلّ من يرفض الخضوع له مستغلاّ في ذلك جامع المنطقة الذّي سيطر عليه من أجل تمرير خطابه وتعبئة الشباب والمراهقين للالتحاق بالجهاد في سوريا”.
ويؤكّد طارق، شقيقه، من جانبه بانّه “تمّ تنبيه وزارة الداخلية مرارا و تكرارا لما يحدث في ديبوزفيل غير أنّها لم تُحرّك ساكنا، ما شجّع أعضاء التنظيم على التمادي والمرور الى مرحلة التصفيات الجسدية”.
و كان الفنّان التشكيلي حاتم التّواتي قد نشر في وقت سابق مقطع فيديو( إضغط هنا لمشاهدة الفيديو كاملا) على الأنترنات كشف من خلاله جانبا من الممارسات التي تقوم بها تلك الخليّة منبّها الى إمكانية حصول ما لا يُحمد عقباه (قبل حادثة مقتل السبوعي). وتحدّث الفنّان التشكيلي عن تعرّضه للإعتداء بالعنف الشديد على أيدي عناصر من المجموعة بعد صدور فتوى تُكفّره لأسباب مذهبيّة ما أسفر عن الإعتداء عليه في ثلاث مناسبات (صيف 2011/ 8 فيفري 2013 / 8 افريل 2013 ). و لم يجد التواتي من سبيل للإحتماء من التنظيم و كشف ممارساته سوى اللجوء الى الانترنات في مرحلة أولى و التقدّم بشكوى الى الرابطة التونسية في مرحلة ثانية. وقد أفادنا كاتب عام الرابطة بأنّ المنظّمة راسلت وزارة الداخلية في مناسبتين (05 مارس /14 مارس 2013 ) لاطّلاعها على فحوى ما تعرّض له المتضرّر حاتم التواتي و مطالبتها بالإذن بالبحث في الموضوع. وردّت الداخلية بتاريخ 01 أفريل 2013 مشيرة الى أنّ المتضرّر لم يتقدّم بشكاية رسمية في الغرض بل طالب بتوفير الحماية له فقط.
ويتبيّن من خلال ما ورد في ردّ الدّاخلية حجم الخوف الذّي ينتاب متساكني ديبوزفيل و عدم تجرّئهم على التقدّم بشكاوى ضدّ أعضاء التنظيم السلفي بالرّغم من تعرّض العشرات للتعنيف و السّلب و التهديد بالقتل. و جاء في الشهادات الموثّقة التّي بحوزتنا أنّ التنظيم يفرض “أتاوة” مقدارها 25 دينارا شهريّا على كلّ أصحاب المحلات و مراكز الخدمات و التجّار في الحيّ مقابل عدم التعرّض لهم بأذى. و تشير شهادات مسجّلة للأهالي بأنّ “خليّة ديبوزفيل تتعامل مع المتساكنين الذين رفضوا الخضوع لنظام الخليّة على أنّهم كفّار خارجون عن الإسلام حيث يتمّ إجبارهم على دفع مبالغ ماليّة من فترة لأخرى حتّى لا يتمّ التعرّض لهم ولأبنائهم بسوء”.
وكان عدد من باعة الخمور و المخدّرات قد تعرّضوا في مناسبات عديدة للإعتداء بالعنف الشديد على أيدي مجموعة من المنتسبين لما يسمّى ب”الشرطة السلفية” للتنظيم. و يقول أحد المتضرّرين (بائع خمر رفض كشف هويّته خوفا من أبناء التنظيم) في سياق شهادته على ما يحدث في ديبوزفيل :” دُعيت في مناسبة أولى للتوبة و الإنقطاع عن بيع الخمر خلسة في المنطقة فتجاهلتهم بادئ الأمر ظنّا منّي انّ مجموعة المنحرفين التي أحتكمُ اليها قادرة على حماية تجارتي غير أنّ كلّ توقّعاتي كانت مجانبة للصواب اذ انفضّ الجميع من حولي بمجرّد دخولي في مواجهة مباشرة مع السلفيين .. قويّين يا خويا، مجرّمة ما ينجّمهم حدّ .. تي الحاكم وحار فيهم خلّي آنا.. باي باي ديبوزفيل وباي باي تونس…”.
مصدرنا استظهر لنا بشهادة طبّية توثّق حجم الضرر الذي طاله جرّاء تعرّضه للإعتداء بالعنف الشديد من قبل سلفيّي المنطقة مؤكّدا في الآن ذاته بأنّه انقطع نهائيا عن بيع الخمر و بات لا يرتاد الحيّ إلاّ في أوقات قصيرة للإطمئنان على العائلة و من ثمّة المغادرة باتّجاه منزل الأقارب خارج ديبوزفيل :” الوحش ولا الأذى يا خويا..” .. هكذا ختم محدّثنا شهادته.

محمّد السبوعي .. اللّغز المحيّر

قضيّة مقتل محافظ الشرطة محمد السبوعي تلوح من أخطر تجلّيات الممارسات المعلنة للتنظيم حيث تكشف محاضر التحقيق- التي تحتوي على اعترافات المتّهمين الموقوفين- النّقابَ عن جانب كبير من ممارسات التنظيم و أنشطته و طريقة تفكير قياداته، فقد قُتل السّبوعي بدم بارد بعد ان تمّ طعنه أكثر من 22 طعنة و من ثمّ ذبحه وسط تكبير حماسيّ من قبل أفراد “فريق الإحتطاب” وفق ما تثبته اعترافاتهم المسجّلة عليهم.
extrait4
وتؤكّد مصادر متطابقة بأنّ جريمة قتل السّبوعي لم تكن مبرمجة مسبقا غير أنّ العثور على هذا الأخير في منطقة ديبوزفيل على متن سيّارته من نوع “ميغان” أغرى المجموعة بسلبه والإستيلاء على سيّارته لتتطوّر العمليّة الى “إقامة الحدود” بعد التعرّف على هويّة صاحب السيّارة و التأكّد من أنّه ينتمي الى “الطّواغيت” الذّين يجوز قتلهم وفقا لفتوى صادرة عن إمام جامع ديبوزفيل (قاضي التنظيم) في خطبة تحريضيّة جاء فيها ما يلي : “ستقول لي انّي اصلّي واصوم وأحجّ بيت الله الحرام وانّي ازكّي من مالي فكيف تكفّرني بحجّة أنّني شرطيّ أشتغل في الدّولة.. سأجيبك من كتاب الله وسنّة رسوله (يتحدّث الامام هنا عن حادثة فرعون وهامان وجنودهما).. وقال الله تعالى “ومن لم يحكم بما انزل الله فؤلئك هم الكافرون”، لذلك ايّها الشرطي انّك تشتغل في دولة لا تحكم بما أنزل الله .. و لم يستثن الله من حكمه الرئيس و المرؤوس.. قال تعالى “الذّين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان انّ كيد الشيطان كان ضعيفا” (…) ستقول لي انّي أشهد أنّ لا اله الاّ الله (بقيّة الخطبة تكفير ودعوة صريحة لقتل الشرطة والجيش والديوانة حتّى وان كانوا من المسلمين).”
ويُفيد ملفّ القضيّة أنّ المصالح الأمنيّة تمكّنت من إلقاء القبض على سبعة عناصر من التنظيم، من بينهم طفل، يُشتبه في تورّطهم بشكل مباشر في جريمة القتل فضلا عن إصدار مناشير تفتيش في ستة آخرين. و قد اتّصلنا بمصدر من هيئة الدفاع عن السلفيين الموقوفين على ذمّة القضيّة قصد التثبّت ما إذا كانت إعترافات الموقوفين قد تمّ انتزاعها تحت طائلة التعذيب أم لا فلم نجد الى حدّ الآن أيّ احتراز مسجّل من الهيئة تجاه هذا الموضوع. و في السياق ذاته اتّصلنا بالاستاذ أنور اولاد علي الناطق باسم هيئة الدفاع عن السلفيين الموقوفين على خلفية أحداث العبدلية و السفارة الامريكية و عرضنا عليه الموضوع فأفادنا بانّ الهيئة لم تتلقّ أيّ اشعار في هذا الصدد.
وفي ما يلي القائمة الاسمية الكاملة للمجموعة المشتبه في تورّطها في الجريمة وفق ما ورد في ملفّ القضيّة:
-سعيد البوسالمي / بحالة إيقاف /لمّا كان بصدد الفرار الى ليبيا
- وجيه الزّيدي / بحالة إيقاف
- سفيان الكحيلي / بحالة إيقاف
- أسامة السعيدي / بحالة إيقاف
- محمد السلطاني / بحالة إيقاف
- محمد أمين الخرشاني / بحالة إيقاف /لمّا كان بصدد الفرار الى ليبيا
- بوبكّر بن اسماعيل (طفل) / بحالة إيقاف
- عاطف العبيدي / بحالة فرار
- محمد علي اليحياوي / بحالة فرار
- نزار المحضي / بحالة فرار
- منعم لسود / بحالة فرار
- أنيس الهرماسي / بحالة فرار
- عبد اللّه دقّة / بحالة فرار
extrait1
وثيقة من ملف القضية
جريمة قتل السّبوعي لئن كانت القطرة التي أفاضت كأس الأهالي و دفعت بهم للخروج عن صمتهم و إعلان غضبهم ضدّ من يصفونهم بالإرهابيين فإنّها كشفت النّقاب عن معاناة متساكني المنطقة الذين باتوا لا يجدون حرجا في التّصريح بأنّهم يعيشون “تحت نير الإستعمار”.
يقول س. بن عبد الله، أحد متساكني المنطقة :”لقد استعمرونا.. انّه استعمار حقيقي .. كأنّنا نعيش في الصومال أو في أفغانستان .. أين الدّولة من كلّ هذا .. أين وزارة الداخلية .. لماذا لم تتحرّك سابقا عندما نبّهنا الهياكل التابعة لها في أكثر من مناسبة ممّا يحصل في ديبوزفيل.. لماذا لم يتمّ سابقا إلقاء القبض على عناصر هذه المجموعة الإرهابية قبل أن تتمادى في صنيعها و تتمكّن من ارتكاب جرائمها”.
مصادر متطابقة أكّدت لموقع “نواة” أنّ أحدى الفرق الأمنية المختصّة قامت في أكثر من مناسبة، سابقا، بمداهمات فُجائية للأماكن المعتادة لعناصر التنظيم (قبل مقتل السبوعي) غير أنّها (أي العناصر) كانت تختفي عن الأنظار كلّما دقّت ساعة المداهمة ما يفتح باب التأويل على مصراعيه أمام فرضيّة الإختراق المحتمل لمصالح الداخلية.
نُذَكّر في ختام هذا التحقيق بانّنا كنّا قد اتّصلنا بمصدرين قياديين في تنظيم أنصار الشريعة (بصفته الغطاء التنظيمي لمجموعة ديبوزفيل) بهدف التفاعل مع المعطيات السابق ذكرها. و قد عبّر بلال الشواشي عن عدم رغبته في التحدّث للإعلام في حين ربط مصدر ثان (نحتفظ بهويّته بناء على طلبه) بين رفضه التفاعل مع التحقيق الحالي و بين ما وصفه بتجاهل نواة لمأساة ال17 سلفي الذّين قتلوا على أيدي الجهات الأمنية سابقا. و قال مصدرنا حرفيّا “وقتلي تحلّوا تحقيق صحفي على ال17 الّي قتلوهم البوليسية ايجاو أتو نعطيوكم راينا في البوليس الّي تقتل في ديبوزفيل”.

Society  ›

1513_519666051416712_4195634_n
 تنظر امامك فتطالعك الوجوه كئيبة حزينة تختزن بين تجاعيدها حكاية ثورة مغدورة ..تَجُول بعينيك حواليك فيرتدّ البصر خائبا وهو حسير من فرط “الخراب” الذّي يستبدّ بالمنطقة حيث تنعدم مرافق الحياة الكريمة وتحلّ محلّها بنايات محترقة وطرقات غير منسجمة مع تضاريس المدينة وأحياءٌ سكنية غارقة في الفوضى كأنّها مخيّمات للّاجئين. وبين هذه الصّور الحزينة والممزوجة بغيض المتساكنين وغضبهم الجارف ينقاد بصرك الى لوحات وشعارات وأثار رصاص حيّ توثّق على الجدران ملحمة ثورة لم تكتمل بعدُ.
أنت هنا .. في مدينة القصرين، حيث يُكتب جزء من تاريخ تونس بالدمّ في انتظار أن تكتمل بقيّة فصول الحكاية.
على بعد كيلومترات قليلة عن “جبهة الألغام” في الشعانبي تنتصب مدينة القصرين بتضاريسها الجبلية القاسية تنوء بأوجاع تاريخ مُفعم بالكفاح ضدّ المستعمر والنّضال ضدّ الديكتاتورية وحاضر يستبدّ به التهميش والفقر والجوع واللّامساواة.
 “كأنّ القدر ادّخرنا للنضال فقط – يقول محمّد بالرّابح السعيدي – فقد عشنا ويلات الاستعمار ثمّ ناضلنا ضدّ فاشيّة الحكم البورقيبي عندما انحرف نحو الاستبداد، ولم نرم المنديل أبدا وظللنا نناضل ضدّ الخيارات الاقتصادية والاجتماعية الخاطئة على مدى فترة ديكتاتورية بن علي، فماذا كان جزاؤنا يا ترى .. لا شيء سوى سفك الدماء ومزيد من التهميش والحقرة واللّامبالاة .. نحن مُقدَّمون في النضال والثورة، مُؤخّرون في اقتسام ثروات الوطن. باختصار شديد لقد أرادونا حطب ثورة فابتلعنا الطّعم.”
تهميش لا يعترف بالزّمن
998114_539305019449504_1195513888_n
كلمات محمّد بالرّابح لم تشذّ عن السياق العام لشهادات أهالي القصرين، فكلّ الشهادات كانت تطفح ألما وربّما حقدا تجاه ما أجمع الاهالي على اعتباره “تهميشا” للمنطقة و”احتقارا” لأهلها من قبل الحكّام على مدى عقود من الزّمن.
 “انظر يا الى هذه الالبناية المتداعية للسقوط (تشير بيُمناها الى كوخ متداعي للسقوط) أليس من العار ان تسكن أمّ الشهيد كوخا .. أليس من العيب أن تكافأ الامّ التي أرسلت فلذة كبدها بصدر عاري لمواجهة رصاص بن علي، بتجاهلها واهانتها امام المحكمة العسكرية بالكاف وطردها من مركز الولاية وعدم الاحاطة بها اجتماعيا. يا للعار.”
هكذا حدّثتنا وسيلة الفرحاتي، أخصّائية اجتماعية وباحثة في مجال التغيّرات الاجتماعية العميقة، خلال زيارة عمل أدّتها الى حيّ الزهور وبعض الاحياء المنكوبة الاخرى في كل من القصرين وتالة. وتضيف الباحثة قولها :
 “يبدو أنّ الاهالي، بحسب البحوث التي اقوم بها، أصبحوا يعيشون حالة يأس واحباط جرّاء عدم تغيّر اوضاعهم الاجتماعية بعد الثمن الباهض الذّي دفعوه خلال الثورة .. فولاية القصرين قدّمت نحو 20 شهيدا وأكثر من 600 جريح بالاضافة الى الخراب الكبير الذي عمّ المنطقة بأسرها جرّاء القمع الامني للانتفاضة الشعبية السلمية ومع ذلك لم تنل شيئا سوى التهميش والارهاب، لذلك فانّ الوضع بات مرشّحا للانفجار مرّة أخرى، وعلى الارجح فانّ ثورة ثانية تطبخ على نار هادئة.”
ما ذهبت اليه محدّثتنا لم يكن محض تخمينات أو رأيا شخصيا بقدر ما كان خلاصة لقاءات عديدة جمعتها بالمئات من أهالي القصرين وتالة وبعض القرى المهمّشة الاخرى. وقد خرجت الباحثة وسيلة الفرحاتي بخلاصة واحدة : الثورة الثانية قادمة لا محالة.
حيّ الزهور .. نبض الثورة
kasserine
وانت تتجوّل في حيّ الزهور، الشّريان النابض لمدينة القصرين، يُراودك شعور بأنّ المسار الثوري مازال ينبض حيويّة. هنا كلّ شيء ثائر .. الناس والجدران والاحزاب وجرحى الثورة والادارة .. حتّى الطّقس ثائر.
يقول صلاح السليماني، 22 سنة، احد جرحى الثورة، بأنّه لم يعد قادرا على استيعاب ما يحدث الآن في حيّ الزهور :
 “انّنا نعيش على وقع الذكريات .. ذكريات الثورة المغدورة. على هذه الجدران المهترئة كُتبت الثورة برصاص الاحتلال الامني وبدماء أبنائنا وبناتنا.. انّ أصوات الرصاص مازالت تلعلع في أذاننا وتعزف سنفونية الحياة والموت. أحيانا ينتابنا ندم شديد لأنّنا ألقينا بأنفسنا في أتون معركة جنا ثمارها غيرنا.. لقد أرادونا حطب ثورة .. يموت أهالي القصرين لينعم غيرهم بثمار الثورة”.
على مقربة من صلاح كانت مجموعة من الشبّان ترمقنا بنظرات ملؤها الرّيبة والاحتراز .. اقترب منّا احدهم وعاتبنا بنبرة لا تخلو من غضب جارف :
 “ماذا تريدون منّا .. ألم تتعبوا من احصاء عدد الارواح التي أزهقت في القصرين .. يبدو أنّكم لا تتذكّرون القصرين المنكوبة الّا للحديث عن المصائب والقتل والدمّ .. ألم تكفكم مسرحيّة الارهاب في جبل الشعانبي .. اصعدوا الى الشعانبي واسألوا عن حقيقة الألغام والارهاب .. اسألوا عن ملابسات مقتل (الأجودان شاف) الخضراوي .. اسألوهم عن القصرين بأيّ ذنب قُتلت ..”.
وبالتوازي مع المشاكل الاجتماعية العويصة التي يعيش على وقعها أهالي القصرين أصبحت هذه المدينة الحدودية منذ موفّى العام المنقضي محطّ أنظار العالم بسبب الأحداث المريبة المتعلّقة بجبل الشعانبي. ويعتقد أبناء القصرين بأنّ مسألة “الارهاب” في الجبل لا تعدو ان تكون سوى “كذبة كبرى” تمّ ابتداعها من أجل مزيد انهاك القصرين ومعاقبتها لأنّها ثارت ضدّ بن علي وقدّمت أبناءها قرابين للثورة وواجهت الآلة الأمنية بصدور عارية.
 “انّها يعاقبوننا لأنّنا أوّل من يثور وآخر من يعود الى منزله ولكن هيهات منّا الذلّة .. هيهات منّا الصّمت، فالجبل نعرفه شبرا شبرا ولسوف نقتحمه سيرا على الاقدام ان عاجلا أم آجلا بهدف كشف خداعهم وكذبهم”.
هكذا حدّثنا أبناء حيّ الزهور مؤكّدين بأنّهم بصدد وضع اللمسات الأخيرة للانطلاق في تظاهرة “القصرين تتكلم” التي قام عدد من الحقوقيين و الناشطين بالمجتمع المدني بالقصرين بالدعوة إليها لتكون على شاكلة تجمّع شعبي وسط المدينة بتاريخ الجمعة 14 جوان على الساعة العاشرة صباحا للانطلاق في رحلة ترفيهية رمزية لجبل الشعانبي قصد رفع همم قوات الأمن والجيش الوطنيين وتفنيد رواية الارهاب.
وقد تضمّن برنامج التظاهرة إخلاء المدينة من السكّان ومغادرتها لبعض الوقت كحركة رمزية للمطالبة بنصيب الجهة من التنموية والثروة الوطنية.
أسئلة قديمة .. جديدة
مرّت أكثر من سنتان ونصف السنة على انتفاضة أبناء تالة والقصرين التي زعزعت اركان نظام بن علي وعجّلت بسقوطه ولكن ما الذّي تغيّر بعد أن قدّمت الولاية 20 شهيدا ومئات الجرحى ؟
سؤال طرحناه على الأهالي فكان بمثابة القطرة التي أفاضت كأس الصّبر :
 “يا وليدي قتلوا أبنائنا وألقوا بالبقيّة في السجون بتعلّة أنّهم شاركوا في التخريب ومارسوا العنف .. أيّ ثورة هذه التّي تأكل أبنائها .. أيّ حكومة ثورية وشرعية هذه التي تحاكم شباب الثورة وتُلقي بهم وراء القضبان”.
هكذا حدّثتنا الحاجّة هنيّة السعيدي، والدة أحد جرحى الثورة بالقصرين، مضيفة قولها:
“نحن ثرنا من أجل اسقاط منظومة الظّلم والطغيان .. وطالب أبناؤنا بحقّهم في الشغل والكرامة، ولكنّ الظّلم تواصل الى يومنا هذه وتفاقمت البطالة والفقر وأصبح لدينا بفضل ثورتنا المباركة من يجوع ويأكل من المزابل .. بئس الثورة هذه”.
ويعاني أهالي تالة والقصرين من تواصل حالة التهميش والفقر والبطالة غير أنّ الجرح الغائر الذّي يستبدّ بهم جميعا دون استثناء ويحوّل حياتهم الى ألم متواصل هو عدم انصاف شهدائهم وجرحاهم، حيث يعتبر الجميع بأنّ “القضاء العسكري التفّ على دماء الشهداء” و “باع القضيّة” بعد أن أفلت أغلب الفاعلين الأصليين من العقاب.
“انّنا نعرفهم فردا فردا .. نعترف من ثنى الرّكبة وأطلق النار ومن أعطى الاوامر ومن عذّبنا ابنائنا في مراكز الايقاف .. معرفهم فردا فردا وسنحاسبهم يوما ما .. ولكنّنا لن نكون بهم رحيمين.. نعدكم بذلك فنحن قصارنية وما نخافوا كان من ربّي الّي خلقنا”.
كانت هذه آخر وعود “القصارنية” قبل أن نغادرهم ونشدّ الرحال باتّجاه العاصمة وفي الذّهن تجول اسئلة حائرة لم نجد لها اجابات مقنعة وشافية.
اعداد : وليد الماجري

Society  ›

pauvreté
وجهها شاحب نقشت التجاعيد بين ثناياهُ قصّة كفاح لا تنتهي .. عيناها جاحظتان من فرط التّعب .. ثيابها رثّة ممزّقة ومتّسخة .. وعلى ظهرها تحمل كيسا بلاستيكيا عملاقا ينوء بعبء أكوام من القوارير البلاستيكية وبعض الاغراض الاخرى التّي ألقى بها أصحابها في النفايات لتنقلب الى صيد ثمين بالنسبة الى فئة المشرّدين في الارض.
جلسَت على قارعة الطّريق بعد أن أنهكها التّعب .. سحبت قطعة خبز من كيس صغير وقارورة لبن وشرعت تلتهم بنَهَم شديد ما جاد به الزّمان عليها وشفتاها تتمتمان بكلمات شبه مبهمة :
” تعبنا يا وليدي .. ما أمرّها العيشة الكلبة .. أستيقظ يوميّا في ساعة مبكّرة وانطلق في رحلة بحث مضنية قد تدوم أكثر من 14 ساعة متواصلة أجمع خلالها ما تيسّر من قوارير بلاستيكية وفضلات وأغراض قابلة للاستعمال. أنظر الى هذا الحذاء (تشير بيُمناها الى حذاء ممزّق) عثرت عليه هذا الصباح في حاوية قمامة .. أنا محظوظة فغيري لم يعثر على شيء سوى القوارير”.
خيرة المساهلي، 49 سنة، ليست سوى نموذجا مصغّرا لمئات العائلات التونسية التّي باتت تكتوي بنار الفقر والخصاصة وتنزلق يوما بعد يوم الى شريحة المنسيّين والمشرّدين في الارض.
مليونَا تونسي تحت خطّ الفقر
تُطالعنا الارقام الحديثة بانحدار حوالي المليوني مواطن تونسي، اي ما يعادل خمس العدد الجملي للسكان، تحت خطّ الفقر استنادا الى المعايير المعتمدة دوليّا لقياس نسب الفقر, في حين تشير تقارير صادرة عن مكوّنات المجتمع المدني الى انّ المئات من العائلات التونسية الفقيرة انزلقت الى مستوى البحث عن قوتها اليومي في الحاويات والمزابل الجماعية ومراكز تجميع النفايات.
وما فتئت الاوضاع الاجتماعية تراوح مكانها بل انّها انحدرت نحو الاسوأ خلال الاشهر المنقضية على اعتبار تدهور القدرة الشرائية تحت وطأة الارتفاع المشطّ للاسعار وارتفاع مؤشّر التضخّم ما افضى الى تفشّي بعض الظواهر الاجتماعية المؤرّقة على غرار الاحتيال والتسوّل والجريمة المنظّمة.
واصبحت المناطق الحيوية في العاصمة وجملة المدن الكبرى تعجّ بالمحتاجين واصحاب الاعاقات ممّن اختاروا طريق التسوّل مضطّرين بحثا عمّا يسدّ رمقهم، غير انّهم باتوا يعانون منافسة غير متكافئة مع جموع المحتالين الذّين تدثّروا برداء التسوّل بحثا عن الربح السهل والسريع.
“انّهم ينافسوننا على قوت يومنا – يقول الشّيخ محمّد علي الجبّاري – حتّى الصّدقة التي نجمعها من أصحاب القلوب الرّحيمة ضلّت طريقها باتّجاه الايادي الخبيثة التّي اتّخذت من التسوّل، زورا وبهتانا، سبيلا للاثراء وتكديس الأموال. يبدو أنّنا قُدّر لنا ان نعيش على وقع الفقر قبل الثورة وبعدها. نحن الفقراء أوّل من يضحّي وآخر من يأكل. انّه الظّلم. لنا الله نحن الزّواولة المساكين”.
كلمات بسيطة في شكلها ولكنّ مضمونها ينوء بأوجاع مليوني تونسي نَخَر الفقر حياتهم وحوّل حاضرهم الى جحيم لا يطاق.
متسوّلون مزيّفون
وأنت تتجوّل في شوارع العاصمة والاحياء السكنيّة الكبرى يسترعي انتباهك الانتشار الكثيف لمجموعات الاطفال والنساء والشيوخ التي اتّخذت من بعض الانشطة المستجدّة مورد رزق لا غنى عنه. فبالتوازي مع نشاط التسوّل الذّي يعتبر كلاسيكيا ومألوفا برزت خلال الفترة التي تلت الانتفاضة الشعبية أصناف أخرى من التمعّش تمزج بين التجارة والتسوّل والتحيّل.
يقول م.الخضراوي، عون أمن التقيناه بشارع الحبيب بورقيبة، متحدّثا عن هذه الظاهرة الجديدة :
“في ما مضى كان المتسوّل متسوّلا وكان المتحيّل متحيّلا وكان التاجر تاجرا .. كلّ شيء كان واضحا بالنسبة الينا حتّى أنّنا كنّا قادرين على اختراق هذه المجموعات كل مجموعة على حدى بهدف جمع المعلومات الامنية التي تفيدنا كثيرا في اقتفاء أثر الجريمة المنظّمة. ولكن الوضع تغيّر كثيرا اليوم بظهور أشكال جديدة من التمعّش تجمع بين التسوّل والتجارة والتحيّل. أعطيك مثالا بسيطا .. هل ترى تلك المرأة التي تجلس قبالة الفرع البنكي .. في ما مضى كانت تكتفي بالتسوّل وكانت الناس تعطف عليها أمّا اليوم فقد عدّلت نشاطها وأصبحت تبيع قصاصات مزوّرة لجمع الصدقات لبناء جامع فضلا عن بيع المطويات ذات المضمون الديني مثل مطويات الدّعاء والسّنن النبوية. نحن نعلم جيّدا أنها ليست متحيّلة ولكنّنا ندرك في الان ذاته أنّها سقطت بين أيادي عصابة تحيّل وظّفتها لجمع المال مقابل تمكينها من مبلغ هزيل في أخر النهار. هذا ما يُسمّى بتجارة الفقر”.
وتؤكّد بعض المصادر المتطابقة بانّ المئات من “المتسوّلين” المزيّفين دأبوا منذ اختلال التوازن الامني في البلاد على التهافت على وسط العاصمة وجملة الاحياء الراقية في الضاحية الشمالية ومن ثمّ التوزّع بشكل مدروس على الشوارع والانهج والفضاءات التي تشهد حركية كثيفة قصد التسوّل واستدرار عطف الناس لجمع اكثر قدر ممكن من المال.
وكشفت المصادر ذاتها عن وجود ما وصفته بالعصابات المنظّمة التي تتصارع في ما بينها بهدف تقسيم المناطق الحيوية الى مناطق نفوذ يتمّ حراستها وحمايتها على ايدي مجموعات من “البانديّة” الذين عادة ما يقع رصدهم وهم بصدد التجوال على متن درّاجات نارية في داخل الاحياء في اطار ما يشبه “دوريات التفقّد” .
شبكات منظّمة
ولا تقتصر ظاهرة التسوّل على العاصمة فحسب بل تنتشر بشكل ملفت في مدن الساحل وعلى رأسها سوسة حيث بات اصحاب الفضاءات السياحية والتجارية يتذمّرون ممّا وصفوه بالهجوم الشرس على حرفائهم من قبل عناصر او مجموعات تمتهن التسوّل .
وتزدحم محطات النقل العمومي في أغلب المناطق الحيوية بالنشّالين والمتسوّلين والباعة المتجوّلين الذّين يحتلّون الممرّات ومنافذ المحطّات ويصعد بعضهم الى الحافلات والقطارات لممارسة النشاط اليومي الذّي لا يخرج عادة عن الثالوث المذكور : التسوّل أو التحيّل أو التجارة. ويفسّر خبراء علم الاجتماع انتشار هذه الظواهر بتآكل الطبقة الوسطىوانحدار جزء منها تحت مستوى الفقر فضلا عن تراجع الدور التعديلي للدولة بصفتها راعية المجتمع. وتقول الاستاذة لمياء بن حمودة، الباحثة في علم الاجتماع، في هذا الصّدد :
“اذا فقدت الدّولة دورها التعديلي بصفتها راعية المجتمع وضامنة لتوازنه الطبقي اختلّ التوازن وتفشّت مظاهر الفقر والبطالة والجريمة المنظّمة، وأصبح المال والرّبح السريع المحرّك الاساسي لكلّ النزعات الفردية والجماعية. وبعيدا عن التنظير فقد أصبح المجتمع التونسي يعاني ويلات تآكل الطبقة الوسطى ما ولّد شريحة جديدة من الفقراء الذّين لم يتأقلموا بعدُ مع حالة الفقر ويسعون بشتّى الطّرق المشروعة وغير المشروعة لاستعادة موقعهم الاوّل في صفوف الطبقة الوسطى لذلك يسهل استقطاب هذه الشريحة من قبل العصابات المنظّمة لتوظيفها في التسوّل والتحيّل مثلما يحدث الان في بلادنا.”
بعض المصادر المتطابقة أكّدت لنا بأنّ المصالح الامنية في العاصمة كانت قد تمكّنت خلال الاشهر الاخيرة من تفكيك شبكة تسوّل تعمل على استغلال الاطفال القصّر من كلا الجنسين وتوظيفهم في عمليات التسوّل في الاحياء والمناطق الراقية على غرار البحيرة والمنارات والمنازه بالاضافة الى الزجّ بهم في الجوامع والمساجد حيث يتمّ تقديمهم على انّهم ايتام فارّون من الحرب الاهلية التي تدور رحاها على الاراضي السورية بين الجيش النظامي وكتائب ما يسمّى بالجيش السوري الحرّ.
اطفال سوريا .. التجارة الرابحة
ولم يعد التسوّل حكرا على المحتاجين والفقراء من ذوي الجنسية التونسية فحسب، فقد دخلت الجنسية السوريّة وبعض الجنسيات الافريقية على خطّ المنافسة منذ اندلاع النزاعات المسلّحة في كلّ من ليبيا وسوريا.
وتؤكّد شهادات متطابقة (أمنيون، متسوّلون، أئمّة مساجد، مواطنون، الخ) وجود شبكات منظّمة تقف وراء تجنيد الاطفال السوريين من خلال عقد اتفاق مع اهلهم اللاجئين في تونس مقابل تمكينهم من نصيب من العائدات المادية التي يتمّ جمعها يوما بيوم والتي تتراوح بين الخمسين والمائة دينار للطفل الواحد.
“نحن نعرفهم بشكل جيّد – يقول الشّيخ حسين امام جامع في الضاحية الشمالية للعاصمة – فقد قمنا في مناسبات عديدة بجمع تبرّعات من المصلّين بعد صلاة الجمعة من اجل مساعدتهم، غير أننا اكتشفنا لاحقا بأنّهم ليسوا سوى ادوات بين ايدي عصابات التسوّل المنظّمة التي تستغلّ وضعيّتهم المأساويّة (يقصد اللاجئين السورييين والافارقة) من اجل جمع المال من المصلّين والمارّة وأصحاب القلوب الرحيمة والمتعاطفين مع القضيّة السورية.”
وتشير مصادر أمنية الى أنّ عددا من الافارقة استغلّوا احداث الانفلات الامني في البلاد، خلال الفترة التي تلت سقوط النظام، و دخلوا على خطّ التسوّل المنظّم حيث اسّسوا مجموعات باتت هي الاخرى تنتشر في شتى ارجاء العاصمة وترابط امام كنيستي العاصمة و بعض الجوامع والفنادق بالاضافة الى اجتياح عدد من المقاهي بهدف استدرار عطف الناس و ايهامهم بأنّهم طردوا من مخيّم الشوشة للاّجئين بسبب لون بشرتهم السمراء.
وكانت الجهات الامنية قد نفّذت في مناسبات عديدة حملات امنية مكثّفة في العاصمة والساحل وصفاقس تمّ بموجبها ايقاف عدد من المشتبه فيهم بالاضافة الى بعض الفارّين من السجون ممّن اختاروا التمعّش من التسوّل.
وبالرّغم من امتزاج التسوّل بالجريمة المنظّمة الّا أنّ الواقع يشي بحجم المعاناة اليومية التي بات يكابدها نحو مليوني تونسي في انتظار أن تبوح السياسة الاقتصادية والاجتماعية الجديدة ، التي تقوم أساسا على الاقتراض والتداين الخارجي وتقليص الدعم العمومي للقطاعات غير المجدية، بأسرارها وتكشف النقاب عن مصير ما تبقّى من الطبقة الوسطى.
اعداد : وليد الماجري

Economy  ›

452758-port-montreal
PHOTO: FRANÇOIS ROY || ARCHIVES LA PRESSE
 في الوقت الذّي “تتجنّد” فيه السلطات التونسية لملاحقة الأرصدة والممتلكات الراجعة بالنظر الى منتسبي النظام السابق والتي وقع تهريبها الى خارج التراب التونسي، قامت مؤسسة الديوانة التونسية بالتفريط في ما لا يقلّ عن 100 مليون دينار من أموال الشّعب (المال العام) لمجموعة من “الكناترية” خارج الأطُر القانونية.
وانجرّ عن سقوط نظام الحكم السابق وضعُ الدّولة التونسية يدها على أملاك “رموز الفساد” من أقارب بن علي وأصهاره والدّوائر المقرّبة منهم. وقد تمثّل المخرج القانوني في انشاء لجنة مصادرة بموجب المرسوم عدد 13 لسنة 2011 المؤرّخ في 14 مارس الصّادر عن رئيس الجمهورية المؤقّت السابق فؤاد المبزّع.
وجاء في الفصل الاوّل من المرسوم ما يلي :
“تصادر لفائدة الدولة التونسية وفق الشروط المنصوص عليها بهذا المرسوم وفي تاريخ اصداره، جميع الاموال المنقولة والعقارية والحقوق المكتسبة بعد 7 نوفمبر 1987 والراجعة للرئيس السابق زين العابدين بن الحاج حمدة بن الحاج حسن بن علي وزوجته ليلى بنت محمد بن رحومة الطرابلسي وبقية الاشخاص المبيّنين في القائمة الملحقة بهذا المرسوم وغيرهم ممن قد يثبت حصولهم على أموال منقولة أو عقارية أو حقوق جرّاء علاقتهم بأولئك الاشخاص.
ولا تمسّ المصادرة المقرّرة بمقتضى هذا المرسوم من حقوق الدّائنين في المطالبة بالوفاء بديونهم المترتّبة قبل 14 جانفي 2011 على أن يتمّ ذلك وفق الاجراءات المحددة بأحكام هذا المرسوم.”
أنظر مرسوم المصادرة الصادر بالرائد الرسمي:
وقد سجّلت الفترة الفاصلة بين شهري ديسمبر 2010 ومارس 2011 حصول اضطرابات غير مسبوقة في المصالح الديوانية نظرا الى أنّ جانبا كبيرا من البضائع المستوردة علق في الموانئ البحرية بسبب وجود أصحابها امّا وراء القضبان أو بحالة فرار خارج التراب التونسي على خلفيّة انتمائهم الى دوائر الحكم (عائلتا بن علي والطرابلسي). وفي غياب هيئة رسمية للمصادرة سمحت الادارة العامّة للديوانة لنفسها بالتصرّف في تلك الأملاك دون موجب قانوني وفق ما سنسعى الى اثباته في هذا التحقيق.
“الكناترية” و العائلة الحاكمة : مصالح مشتركة
بعد ازاحة الرّئيس الأسبق زين العابدين بن علي عن سدّة الحكم وتداعي أركان نظامه للسقوط و اعتقال أكثر من 20 عنصرا فاعلا من المحسوبين على العائلة المالكة و نجاح البقية في الفرار الى خارج تونس على غرار بلحسن الطرابلسي، وجدت المصالح الديوانية بالموانئ التجارية نفسها مضطرّة لحجز حوالي الألف حاوية تحوي سلعا و منتوجات مستوردة تمّ ادخالها الى التراب التونسي عبر “شركات واجهة” تعود ملكيّتها الى عناصر من عائلتي بن علي والطرابلسي والدوائر المقرّبة منهما (أنظر القائمة الاسمية الكاملة التي وردت في مرسوم المصادرة المنشور في الرائد الرسمي). وقد تم الاحتفاظ بهذه الحاويات لعدّة أسابيع حتّى تبتّ المصالح المختصّة فيها.
وتجدر الاشارة في هذا السياق الى أنّ جملة هذه الشركات دأبت منذ سنوات على التكفّل باستيراد السّلع من أوروبا و آسيا و بعض الدّول الأخرى نيابة عن كبار تجّار الجملة في أسواق بومنديل و المنصف باي (الخ) والذين يُعرفون تحت تسمية “الكناترية”.
وتتحصّل جملة هذه الشركات على عمولات ضخمة من “الكناترية” مقابل تكفّلها بإدخال هذه السّلع دون دفع الأداءات الجمركية أو الاكتفاء بدفع معاليم هزيلة جدّا لا تعكس القيمة الحقيقية للسّلع المستوردة، مستغلّة في ذلك نفوذها القوي المستمدّ من انتماء أصحاب هذه الشركات الى العائلة الحاكمة ما يُتيح لها احكام سيطرتها على مراكز النفوذ في مؤسسة الديوانة.
وقد فرضت التغيّرات الحاصلة على الخارطة السياسية بالبلاد بعد الثورة واقعا جديدا وضَع المدير العام للديوانة آنذاك الطّاهر بن حتيرة (26 جانفي – 27 ماي 2011) في أمام اشكالية التصرّف في المئات من الحاويات التي تحوي سلعا مستوردة تفوق قيمتها المائة مليون دينار بحسب تقديرات الخبراء و التي علقت بالموانئ البحرية التجارية (أغلبها في رادس حلق الوادي) نظرا الى أنّ أصحابها امّا في السجن أو بحالة فرار خارج التراب التونسي.
وتتمثّل تلك السّلع في ملابس جاهزة (تصل قيمة الحاوية الواحدة الى 250 ألف دينار) و تفاح رفيع (حوالي 50 ألف دينار الحاوية) و موادّ تجميل (من 50 الى 80 ألف دينار الحاوية) و ألعاب للأطفال ومعدّات الكترونية أخرى مختلفة القيمة.
“الكناترية” يحتجّون
عمليّة الحجز المؤقّت لهذه الحاويات دفعت بعشرات “الكناترية” لتنفيذ عدّة تحرّكات احتجاجية على مدى النّصف الأوّل من شهر فيفري 2011 أمام ميناء رادس – حلق الوادي للمطالبة بتسريح الحاويات العالقة في الحجز على ذمة ما يُعرف ب”شركات الطرابلسية” بدعوى أنّ السّلع التي تحويها تعود ملكيّتها اليهم وأنّ شركات الطرابلسية لم تكن سوى “واجهات” شكلية تمّ اللّجوء اليها قصد التحايل على القانون والتهرّب من الأداءات الضريبية.
وتفاعلا مع الضّغط المسلّط عليه قام المدير العام للديوانة الطاهر بن حتيرة بتكوين لجنة لتغيير هويّة الحاويات تتكوّن من ضباط سامين وممثلين عن وزارتي المالية والتجارة وممثّل عن جامعة النقل التابعة لمنظمة الأعراف و ممثّل عن المهربين بالاضافة الى تكليف العقيد وحيد السعيدي (تمّ ادراج اسمه في القائمة الثانية للمعزولين) بالاشراف على الجانب التقني في عملية تغيير وثائق الشّحن .
وأوكلت الى هذه اللّجنة مهمّة النظّر في مطالب “الكناترية” ومحاولة ايجاد حلّ منصف لهم الّا أنّها سرعان ما تجاوزت صلاحياتها و خرقت القانون المتعلّق بتغيير هويّة الحاويات وقامت بنقل ملكيّتها من شركات “العائلة الحاكمة” الى شركات جديدة راجعة بالنظر الى “الكناترية” دون الحصول على موافقة المالكين الأصليين وفق ما يفرضه القانون (الفصل 117 من مجلة الديوانة).
وثائق سرّية توثّق عمليّة نقل ملكية الحاويات من شركات الطرابلسية الى شركات أخرى راجعة بالنظر للمهرّبين
وقد شكّك عدد من الضبّاط السّامين صراحة في نوايا هذه اللجنة وقانونية بعثها، وعمدوا الى مقاطعة أشغالها رافضين التوقيع على القرارات الصادرة عنها بدعوى خرقها للقانون.
وقال العقيد فوزي البرجي (موقوف عن النشاط المهني بعد الثورة) في سياق شهادته على ملابسات عقد اللجنة لاجتماعاتها :
“تمّ استدعائي لحضور أحد الاجتماعات ولمّا ولجتُ الى داخل القاعة صُعقتُ بوجود أحد كبار المهرّبين بصدد التفاوض مع ممثّلي الديوانة وبقية ممثّلي مؤسسات الدولة المعنية و كأنّه صاحب حقّ .. عندها فهمت أنّ هذه اللجنة بُعثَت خصّيصا لتبييض السّلع المحجوزة والتفريط فيها للكناترية في حين أنّها أصبحت بعد سقوط بارونات الفساد مُلكا للشّعب التونسي ولا حقّ للكناترية فيها لأنّ مكانهم الطبيعي في السجن. جملة هذه المعطيات جعلتني أقاطع اشغال اللجنة، و قد كلّفتني هذه المقاطعة اقحامي في قائمة المعزولين”.
عدد آخر من كبار المسؤولين الذّين رفضوا ما وصفوه ب”مسرحية” اللّجنة نالوا المصير ذاته حيث تمّ عزل العقيد لطفي العيّادي، مدير التصرّف في المخاطر، و العقيد أنور غشّام مدير القيمة بعد أيّام قليلة من “التمرّد” على هذه اللجنة غير القانونية.
ويقول العقيد لطفي العيادي في هذا السياق :
“أنا الآن مستشار لدى البنك الدّولي و سعيد جدّا بوضعيّتي المهنية الجديدة التي أعتبرها بمثابة تتويج لمسيرتي المهنية وشهادة على كفاءتي .. لقد بتّ أحبّذ عدم تذكّر تلك الفترة التي رأيت فيها من الظّلم الشّيء الكثير و لكن من الضروري الادلاء بشهادتي للتاريخ .. لقد كانت تلك اللجنة خارجة عن القانون .. وقد رفضت التوقيع على مقرّراتها لسببين اثنين أوّلهما يتمثّل في ملابسات بعث اللجنة ذاتها وتركيبتها الفضيحة حيث كانت تظمّ أحد المهرّبين، وثانيهما المغالطة الكبرى التّي حصلت صلب اللجنة حول القيمة المادّية للسّلع حيث نزل بن حتيرة بقيمة بعض السلع للنّصف ارضاء لممثّل الكناترية فضلا عن تسريح بعض السّلع التي انقضى أجل صلوحيتها فباتت تمثّل خطرا على المواطنين على غرار موادّ التجميل وبعض الموادّ الغذائية”.
العقيد لطفي العيادي تطرّق كذلك الى خلفيات تأسيس اللجنة نافيا أنّها كانت “الحلّ الوحيد” للخروج من مأزق الحاويات العالقة، مضيفا قوله :
“أنا شخصيا أستبعد سيناريو حصول مدير الديوانة الطاهر بن حتيرة على منافع مادّية جرّاء هذه العمليّة غير أنّي أكاد أجزم أنّه فعل ذلك استرضاء لبعض اللوبيات المتنفّذة سياسيا واداريا”.
بن حتيرة يقدّم روايته
بعد استيفاء كلّ المحاولات للحصول على موقف الادارة العامّة للديوانة حول مجموعة المعطيات التي بحوزتنا نظرا لتزامن انجاز بحثنا مع استقالة المدير العام للديوانة محمّد المدّب
، قمنا بمكافحة المدير العام الأسبق الطاهر بن حتيرة، بصفته المعنيّ بالموضوع، فكانت اجاباته مراوحة بين الديبلوماسية و التملّص من الاجابة بتعلّة أنّ الملفّات ليست بحوزته نظرا لمغادرته الادارة العامة للديوانة ليشغل خطّة مدير الهيئة العليا للرقابة الادارية و المالية، دون أن يغفل محدّثنا عن الاشارة الى أنّ بعث تلك اللّجنة كان قد مكّن من تجنيب الديوانة و الموانئ التجارية و بقية الوزارات و الهياكل المعنية شبح الحرق والتخريب على أيدي المهربين الذّين وصفهم بالمتضرّرين :
“لم يكن أمامنا خيار آخر – يقول بن حتيرة- سوى بعث لجنة موسّعة تظمّ ممثّلين عن كلّ المتداخلين في المنظومة الديوانية لايجاد حلّ سريع ومخرج قانوني لجملة الحاويات العالقة وتمكين أصاحبها الحقيقيين من استعادتها على اعتبار أنّ الطرابلسية لم يكونوا سوى واجهات لإدخال هذه السّلع دون الخضوع للأداءات الديوانية.. وقد قامت اللجنة بتحديد قيمة السّلع ومن ثمّة فرضت على أصحابها الاستظهار بالوثائق الأصلية التي تثبت ملكيّتهم لها ليتمّ على اثر ذلك تمكينهم من تسريحها بعد اتمام الاجراءات وتسديد الأداءات المفروضة عليها”.
السّيد الطاهر بن حتيرة اتّهم بعض الضبّاط السامين الذّين تمّ عزلهم في اطار ما يُعرف بالقائمتين الأولى والثانية بالسّعي، من خلال اثارة موضوع الحاويات، الى تصفية حساباتهم الشخصية معه والانتقام منه، مشيرا في السياق ذاته الى أنّ السياق التاريخي الذّي تشكّلت فيه “لجنة تغيير هويات الحاويات” كان متّسما بالاضطراب الأمني وبعدم الاستقرار السياسي لذلك لم يكن هنالك من مفرّ سوى اللّجوء الى هذا الحلّ التوافقي.
وعلى خلاف ما ذهب اليه بن حتيرة فانّ عددا من خبراء القانون الذّين فحصوا وثائق الملفّ أكّدوا بأنّ هذه اللجنة تسبّبت في “اهدار” المال العام وأضفت الشرعية القانونية على عملية الغشّ الديوانية التي كان يقوم بها أصهار بن علي وجملة المهرّبين المتعاملين معهم وأتاحت لهؤلاء “الكناترية” الاستيلاء على ما يفوق المائة مليار بدل محاكمتهم على جرائمهم.
ويعرّف الفصل 371 من المجلّة الديوانية بشكل صريح عمليّة الاتّفاق الحاصلة بين “الكناترية” وأصحاب الشركات السابق ذكرها على أنّها “عمليّة غشّ” يترتّب عنها انزال العقوبات المنصوص عليها في القانون الجاري على كلّ من استفاد من العملية بما في ذلك “الكناترية”.
الفصل 371 :
1- يعـاقب بنفس العقوبات المسلطة على مرتكبي الجنحة وكذلك عقــوبات الحرمان من الحقوق المنصوص عليها بالفصـل 402 من هذه المجلّة, كلّ شخص شارك بصفة مستفيد وبأيـةّ صورة كانت, في ارتكاب جنحة تهريب أو جنحة توريد أو تصدير دون إعلام.
2- يعتبر بمثابة مستفيدين:
أ- مسيرو وأعضاء تنظيمات الغش والمؤمّنون والمؤمّن لهم والمموّلون ومالكو البضائع وبصفة عامّة كل من له مصلحة مباشرة في الغش.
ب- كلّ من ساهم بأيّة طريقة كانت في أعمال قام بها عدد من الأشخــاص بالاتّفاق فيما بينهم وفق مخطّط غشّ أعدّوه من أجل تحقيق النتيجــة التي يسعون إليها جميعا.
ت – كلّ من تعمــّد التستّر على تصرّفات مرتكبي الغش وحــاول تجنيبهم العقاب أو تعمّد شراء أو مسك ولو خارج النطاق الديواني بضـائع متأتيّة من جنحة تهريب أو توريد دون إعلام.”
وتُكيّف الفقرة الأخيرة من الفصل ذاته الاجراء الذّي قامت به اللجنة التي أنشأها المدير العام للديوانة على أنّه “تعمّد التستّر على تصرّفات مرتكبي الغشّ” ما يجعلها (أي اللجنة) طرفا في عملية الغشّ.
اعداد : وليد الماجري

Society  

prostitution-tunisie-abdallah-guich (1)
Une prostituée dans un bordel tunisien dans le quartier de Abdallah Guech, Tunis. Photo: AFP
رائحة عطرها الفرنسي تزكم الأنوف على بعد أمتار .. ثيابها جذّابة زادها تناسق اللّونين الأسود والأحمر اثارة واغواء .. مشيتُها مُغرية لا تخلو من تقليد متصنّع لمشية عارضات الأزياء.
لم يَطل انتظارها كثيرا في الشارع الرّئيسي لضاحية “البُحيرة” الراقية حتّى توقّفت امامها سيّارة فاخرة يقودها كهل ضخم الجثّة تشي ملامحه بانتمائه الى قطر مغاربي مُجاور. تناقش الاثنان سويّة لبرهة من الزمن لتمتنع الشابّة بعد ذلك عن الصعود الى السيارة بحجّة أنّ العرض المُقدّم لها لا يرقى الى مستوى انتظاراتها :
“ما يساعدنيش هكّا .. المبلغ الذّي تقترحه هزيل جدّا .. أنا لا آبهُ للمكان الذّي سنسهر فيه أو المشروبات التي سنحتسيها أو السيّارة التي ستنقلنا الى النّزل .. مثل هذه الأشياء سئمتها، كلّ ما يعنيني الآن هو ما سيدخل جيبي من مال علما أنّني لا أصعد الى السيارة الّا بعد أن أقبض .. يظهرلي كلامي واضح.”
لمياء (اسم مستعار و نحتفظ بهويّتها الأصلية)، 28 سنة، هي نموذج مصغّر لمئات الشابّات والنساء التونسيّات اللّواتي ارتمين بين أحضان “حرفاء المتعة الجنسية” ليس بحثا عن المتعة بل ابتغاء للكسب السّهل والسّريع وتحصيل أكبر قدر ممكن من المال بعيدا عن معادلة الحلال والحرام. هنّ عاهرات في نظر المجتمع، ضحايا في نظر الباحثين والأخصّائيين الاجتماعيين .. وبين هذا الشقّ وذاك هنّ يمثّلن خصما لدودا ومنافسا شرسا لبائعات الهوى اللّواتي يشتغلن بشكل قانوني ومنظّم في بيوت الدعارة الرّسميةالمتواجدة في أغلب ولايات الجمهورية منذ عقود من الزّمن.
جاعت الحرّة ف…
“تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها” .. لم يعُد هذا المثل المأثور منسجما مع واقع شريحة من بنات تونس، بل لعلّه لم يعُد مطروحا أصلا في بعض الاوساط الشعبية الفقيرة والمنسيّة حيث تجوع الحرّة فتضطرّها الحياة القاسية والظروف الاجتماعية الصعبة الى السقوط في المحظور والمتاجرة بجسدها حتّى تسدّ رمقها وتسكت جوع أبنائها مادامت غير قادرة على توفير ما تحتاجه من مال عبر الطرق “الحلال” المتعارف عليها اجتماعيا.
واذا كان المجتمع التونسي، أو الشقّ المحافظ منه، يُجرّم وفق منظور ديني وأخلاقي، بحت مبدأ الجنس خارج الأطُر القانونية للزواج فانّه عادة ما يضطرّ للصّمت حيال بعض الحالات التّي تستبطن قصصا اجتماعية مؤسفة تقطر فقرا وحرمانا.
مريم، 32 سنة، هي أرملة توفّي زوجها منذ سبع سنوات تاركا لها طفلتين احداهما تحمل اعاقة عضوية منذ الولادة. ولأنّ شظف العيش لم يترك لها خيارا آخر فقد اضطرّت مريم للخروج للعمل بعد نحو ثلاثة أشهر من وفاة زوجها حتّى يتسنّى لها سداد نفقة الكراء و اطعام بنتيها اللتين بدَتَا غير مُرحّب بهما في منزل عائلة والديهما. ولم تكد تمضي سنتان حتّى وجدت الأمّ نفسها على قارعة الطريق رفقة بنتيها بعد أن عجزت عن سداد نفقات الكراء ما اضطرّها الى الاحتماء بمنزل صديقتها المطلّقة لينطلق بذلك الجزء الثاني من مأساتها.
تقول مريم متذكّرة فصلا من فصول مأساتها :
” بعد أن طردني المؤجّر لجأت الى منزل عائلة زوجي المرحوم طمعا في ايوائي الاّ انّ حماتي طردتني بدعوى أنّني نذير شؤم على العائلة و أنّني كنت سببا في وفاة زوجي. باختصار شديد، ضاقت بي الدنيا فلم أجد مفرّا من طَرق باب صديقتي التي فتحت لي منزلها و طفقت تنفق عليّ وعلى بنتيّ طيلة أشهر متتالية ثمّ وجدتُني شيئا فشيئا أسير على منوالها لجمع المال لأسقط في نهاية المطاف في فخّ المتاجرة بجسدي لأنّ جراية المصانع التي لا تتجاوز المائتين وخمسين دينارا لم تكن كافية للخروج من عنق الزجاجة .. ومنذ ذلك الحين وأنا أخرج صباحا من المنزل لأعود مساء مرهقة ومنهكة القوى وكلّي احتقار لنفسي.”
حكاية مريم ليست تجربة معزولة، فهي تكاد تتحوّل الى ظاهرة مربكة تنتشر في ولايات العاصمة وبعض مناطق الساحل والشمال الغربي بشكل ملفت للانتباه حيث تكثر تجارة الجنس وتزدهر شبكات الدعارة المنظّمة مستفيدة من الوضعيات الاجتماعية الهشّة للفتيات والنساء اللواتي يتقاطرن يوميّا على المناطق السياحية والصناعية والفضاءات التجارية بحثا عن مورد رزق يسدّ رمقهنّ مهما كان أجره.
…منافسة غير شريفة
في غياب أرقام ودراسات اجتماعية دقيقة توثّق التطوّر التصاعدي والانتشار المتنامي لنشاط الدعارة غير المقنّنة باتت محاضر الأمن وسجلاّت المحاكم المصدر الأساسي وربّما الوحيد الذي يوفّر لمحة عن واقع تجارة الجنس غير المنظّمة على اعتبار أنّ هنالك مسالك أخرى مقنّنة توفّر المتعة الجنسية لطالبيها في فضاءات معترف بها رسميا.
تقول الأستاذة لمياء بن حمودة الباحثة في علم الاجتماع :
“استنادا الى المعطيات التي تمكّنتُ من جمعها فانّ مناخ الحريّة بالاضافة الى حالة الانفلات الأمني والاجتماعي السائدة منذ انهيار النظام السابق ساهمَا في انتعاش تجارة الجنس وتنامي انتشار شبكات الدعارة المنظّمة ما أسفر عن ارتفاع نسق الاستقطاب صلب الاوساط الاجتماعية الهشّة على غرار شريحة عاملات المصانع وبعض الطالبات القاطنات في المبيتات الجامعية”.
ما خلصت اليه الأستاذة بن حمودة من نتائج يَلُوحُ منسجما مع شهادات بعض المصادر الأمنية والقضائية التي أكّدت بأنّ :
“شبكة حُرفاء دُور البغاء والدعارة توسّعت كثيرا لتشمل جنسيات مختلفة أغلبها من ليبيا ودول الخليج العربي. وقد تمكّنت الجهات الأمنية على مدى الأشهر المنقضية من تفكيك عديد الخلايا الناشطة في المجال في بعض الأحياء الراقية على غرار النصر والمنازه والمنارات بالعاصمة وبعض المناطق السياحية الأخرى في الساحل والحمامات وصفاقس”.
وتؤكّد مصادرنا ذاتها بأنّ القاسم المشترك بين أغلب المنتسبات الى شبكات تجارة الجنس اللواتي تمّ ضبطهنّ هو الوضع الاجتماعي المتردّي والاحتياج بالاضافة الى التفكّك الأسري حيث لا تجد تلك الفتيات والنسوة من حلّ لجني المال والربح السريع سوى الارتماء في احضان سوق الدعارة سواء بشكل فرديّ أو من خلال الالتحاق بشبكات منظّمة تشغّلهنّ على مدار الساعة مقابل أجور متفاوتة ترتفع وتتراجع وفق معاهدة العرض والطّلب فضلا عن الأخذ بعين الاعتبار عامل التميّز والجاذبيّة الذي تحظى به شابّة دون أخرى.
الاجرام في خدمة الدّعارة
مظاهر الفقر والبطالة وغياب الاستقرار الاجتماعي والأمني أتاحت لشبكات الدعارة وأوكار البغاء السرّي توسيع مجال نشاطها والانفتاح على جنسيات أخرى ليتمّ تجنيد افريقيات ولاجئات عربيات واضافتهنّ الى قائمة “السّلع” المعروضة مع مراعاة فوارق الأسعار.
“انّنا مضطرّات للقيام بذلك – تقول تيريزا ذات الجنسية الماليّة – فقد تخلّى عنّا الجميع ولم نعُد نجد ما به نسدّ رمقنا. لقد جُعنا وهذا سبب كاف للدخول الى عالم الدّعارة”.
تيريزا هي شابّة ماليّة تبلغ من العمر 23 سنة، التحقت بتونس قبل ثورة 17 ديسمبر للدراسة باحدى الجامعات الخاصّة، غير أنّ حركة التمرّد العسكريّة/الاسلامية في مالي بعثرت أوراقها حيث قُتل والدها القيادي العسكري في الجيش على أيدي مسلّحين متشدّدين ما جعلها دون سَنَد ينفق عليها الشّيء الذّي دفع بها دفعا، وفق تعبيرها، للسقوط بين مخالب شبكات الدّعارة.
وبحسب مصادرنا فانّ تلك الشبكات أصبحت تجنّد مجموعات من المنحرفين وخرّجي السجون لحماية نشاطها وتأمين أوكارها من خطر المداهمات الأمنية التي عادة ما تكون مفاجئة، بالاضافة الى التوقّي من “الغزوات” الفجائية التي أصبحت تقوم بها من فترة الى أخرى مجموعات محسوبة على التيار السلفي.
واذا كانت الدعارة نشاطا تقليديا في تونس المتّسمة منذ عقود بالانفتاح والتحرّر فانّ نموّها وانتشارها بشكل مفزع في ظلّ “تونس المحافظة” بعد الثورة هو أمر يبعث على الاستغراب ويستوجب دراسات مستفيضة لفكّ طلاسم هذه المفارقة تماما مثلما هو الحال مع الارتفاع الصّاروخي لمبيعات الجعة والخمور وحبوب الفياغرا في السوق التونسية وفق ما تثبته الأرقام الحديثة.
اعداد : وليد الماجري