الأحد، 3 مارس 2013



بورتريه
شكري بلعيد ..رحلة الفارس الاحمر

لم يكن يعلم انّه بموته سيولد ملايين الثوّار.
لم يكن يعلم انّ قطرات دمه المسكوبة في عروق الثورة "المغدورة" ستبثّ الروح في جسد الوطن المنهك وتعيد له زخمه وديناميكيّته الثورية. رحل شكري بلعيد فازداد بغيابه حضورا وباتت حادثة اغتياله حدثا عالميا تعتمده اجهزة المخابرات الدولية ووكالات الانباء العالمية بوصلة لتحديد مسار الثورة التونسية .

 ولد شكري بلعيد في 26 نوفمبر 1964 بضاحية جبل الجلود جنوب العاصمة لعائلة عمّالية تعتنق الفكر الماركسي الثوري.ترعرع في  حيّه الشعبي حيث زاول دراسته الابتدائية بنهج سكيكدة ، وبانتقاله  إلى المعهد الثانوي بالوردية انطلقت اولى تجاربه السياسية فتمّ ايقافه مطلع سنة 1984 على خلفية انتفاضة الخبز وتمّ الاحتفاظ به في السجن لمدة تزيد عن شهر. "لست نادما – يقول بلعيد متذكّرا – فلو عادت عجلة التاريخ الى الخلف لاخترت ان أكتب التاريخ على تلك الشاكلة . انّ الثورة قدر محتوم على كلّ الشعوب المضطهدة والرازحة تحت نير الديكتاتورية".

  بعد حصوله على شهادة الباكالوريا انتقل إلى كلية العلوم في اختصاص الفيزياء والكيمياء لكنّ ثقل الأعباء السياسية والتنظيمية حال دون التفرغ للدراسة اذ أسّس في تلك الفترة، مع ثلة من رفاقه، الفصيل الطلابي "الوطنيون الديمقراطيون بالجامعة" لينتهي به المطاف "منفيّا" في رجيم معتوق بعد اعتقاله على اثر حملة ملاحقات شرسة شنّها النظام لضرب الحركة الطلابية انذاك. "كنّا في وضع سيّء للغاية ، وكانت الالة الامنية تحكم قبضتها على الحركة الطلابية ..ولكنّنا وسط تلك الظلمة الحالكة كنّا نرى بصيص نور يلوح في الافق ما جعلنا نصبر ونقاوم ونزداد اصرارا على انتزاع منظّمتنا الطلابية العتيدة من براثن السلطة السياسية التي سطت عليها ومنعت انعقاد مؤتمرها بشكل مستقلّ" . هكذا تحدّث شكري بلعيد قبيل اغتياله بيوم واحد غداة احياء الذكرى ال42 لحركة 5 فيفري.

سنة 1988 ساهم الشهيد شكري بلعيد في انجاز المؤتمر 18 الخارق للعادة للاتحاد العام لطلبة تونس وانتخب عضوا بمكتبه التنفيذي.وقد اعتُبر نجاح المؤتمر بمثابة النصر المبين الذي بشّر به  بلعيد من منفاه برجيم معتوق.
 ولأنّه دائمُ البحث عن ذاته تقوده خلفية شيوعية ثائرة، انتقل بلعيد إلى العراق حيث درس القانون وتلقّى تدريبا عسكريا حاز على إثره شهادة "متدرب متميّز" .
وقد مكّنته سنوات الغربة من بناء علاقات متميّزة مع عديد القوى الوطنية والتقدمية في الوطن العربي ما جعله يصنّف ضمن خانة المغضوب عليهم من قبل النظام البورقيبي الذي كان أنذاك يلفظ انفاسه الاخيرة . " عدت إلى تونس في أواخر سنة 1988 - يروي بلعيد متذكّرا خلال احد مؤتمراته الشعبية - فتعرّضت إلى مضايقات أمنية عديدة قرّرتُ على اثرها السفر من جديد وكانت وجهتي هذه المرة فرنسا حيث واصلت دراستي  القانونية في المرحلة الثالثة وانخرطت ، في الوقت ذاته، في انشطة عديدة في مجالات متنوعة وفي مقدّمتها حملة مقاومة الحرب على العراق سنة 2003 ومقاومة الديكتاتورية في تونس".
بعد سنوات من الغربة لم يتوقّف خلالها عن النضال على شتّى الواجهات ، عاد بلعيد إلى تونس فجعل من المحاماة منبرا لمحاربة ديكتاتورية بن علي والدفاع عن سجناء الراي والنشطاء السياسيين على اختلاف توجّهاتهم السياسية والايديولوجية وفي مقدّمتهم الاسلاميون، فكان صوتا حرّا يصدع بالحق وينتصر لكلّ نفَس ثوري . وقد تجلّى ذلك  إبّان المحاكمات السياسية لمناضلي انتفاضة  الحوض المنجمي  حيث اهتزّت قاعة المحكمة على ايقاع صرخته الشهيرة " ارحل يا بن علي ، ارحل فقد كرهتك العيون ، ارحل فقد ثار شعبك وتداعت شرعيّتك المزعومة للسقوط". ولكأنّ انتفاضة السابع عشر من ديسمبر كانت صدى لصرخته ، او هكذا على الاقلّ شعُرَ النظام انذاك حيث سارع الى اختطافه وايقافه يوم 27 ديسمبر 2010 إثر مطالبته برحيل بن علي في نهج باب بنات في لحظة تاريخية فاصلة.
بعد 14 جانفي ظلّ "الفارس الاحمر" كما يحلو لرفاقه مناداته يناضل من أجل استكمال مهام "الثورة المغدورة" وفق تعبيره ، فأسّس مع ثلة من رفاقه حركة الوطنيّين الديمقراطيّين وشغل خطّة منسقها العام .عمل جاهدا على توحيد مختلف حلقات الوطنيّين الديمقراطيّين فأثمر هذا الجهد تأسيس حزب الوطنيّين الديمقراطيّين الموحّد ، وآلت الامانة العامة بالانتخاب الى شكري بلعيد الذي تعهّد بتوحيد شتّى فصائل اليسار في اطار الجبهة الشعبية.
تلقّى تهديدات عديدة بتصفيته الجسدية لكنه كان دائم النشاط والحركة قائلا بابتسامته المعهودة انه لن يخضع ولن يخاف ولن يستكين "ما دام على هذه الارض ما يستحقّ النضال".
رحل اسد الثورة وفارسها الاحمر وصدرهُ يلهج برسائل التحذير من غد مظلم ملؤه الاغتيال والتصفيات الجسدية .. رحل ذات صباح ولم يدر انّه برحيله قد كتب فصلا جديدا من فصول الثورة .."نم يا حبيبي، نم يا صديقي ، نم يا عزيزي، نم يا رفيقي فلا نامت أعين الجبناء".. بهذه الكلمات ابّنه رفيق دربه حمّة الهمامي خلال جنازة مهيبة سيذكرها التاريخ .. وهل الرجال الاّ حديثٌ بعدهم.


وليد الماجري

روابط ذات صلة
*الثورة التونسية